تكمن أهمية هذه الدراسة في الكشف عن جماليات السرد القرآني، والغور في بنائه العميق، ومستوياته الأدائية الراقية، وأبعاده النصية والماوراء النصية، مع إبراز أبعاد احتفائه بالمتلقي/الإنسان، وإظهار دوره، وتركه مساحات كبيرة أمامه للاستجابة والحوار والبحث والتواصل، وربط المعطيات بالواقع المعيش. كما تكمن الأهمية في قيام الدراسة بربط الماضي بالحاضر، من خلال الجمع بين جهود القدماء والمحدثين، إظهاراً لعظمة النص توصيلاً وتشكيلاً جمالياً وتحقيقاً لمقاصد الإيمان في التوحيد والتوجيه وبناء الإنسان والحياة الكريمة معاً.وبما أنّ السرد في جوهره هو دراسة للعلاقات بين القصة وطريقة عرضها، يجد المتلقي تركيز البحث على القصة القرآنية بشكل كبير في تحليلاته، معتمداً على العناصر القصصية وعلى النصوص التي فيها نفس قصصي في الفضاء القرآني الرحب، لأنّ القصة القرآنية والنصوص القريبة منها تحمل في طياتها أسساً سردية عميقة، وتحتوي على مستويات زمنية متنوعة، ما تسمح لالتقاط المفارِقات الزمنية والدلالية التي تستنبط من الاختلاف وعدم التطابق بين زمن القصة وزمن الخطاب، أو زمن القصة وزمن الخطاب السردي-كما سنتوقف على ذلك في الفصل الرابع-. إذ لايمكن للخطاب السردي أن يتمّ إلاّ من خلال حكيه قصة، كما تؤكّد ذلك النظريات السردية الحديثة التي ترى أنّ الخطاب السردي وحده الذي يمكننا دراسته، وتحليله نصياً، بسبب علاقته بالقصة التي يسردها. ولا يعني هذا أنّ الخطاب ينحصر في المكونات البنيوية وعلى السرديات أن تكشف عن مميّزاتها وحركيتها، ولكنّه علاوة على ذلك متعدّد، فالخطابات السردية متنوعة وشاملة تنفتح أمام القراءات المتعدِّدة.
إنّ تناول الباحث السرد من خلال نظرية التلقي لم يأت اعتباطاً، ولم يكن الباحث بِدَعاً في هذا المجال، على الرغم من المنشأ البنيوي لعلم السرد بشكل عام، والسرديات أو السردية اللسانية بشكل خاص، فقد خرج كثير من روّاد السرديات منذ زمن بعيد على البنيوية، ونادوا بضرورة الأخذ من المناهج الأخرى، كالمنهج التأويلي والتأريخي، والنظر إلى النص السردي من زوايا أخرى موضوعية، وفكرية، وأسلوبية. وقد أدّى التلاحم المتين بين السرد والتلقي إلى ربط تقدير أهمية السردية في تحليل النصوص بنظرية التلقي.
وتجدر الإشارة إلى أنّ قيام الدراسة بتناول السرد من خلال جماليات التلقي، لا يعني انحصارها في منطلقات هذا الاتجاه، بقدر ما يعني الاستفادة من آلياتها التحليلية ورؤاها النقدية، لطبيعة نظريات التلقي التي هي في طور تجدّد وتطور مستمر، كما أن مصطلح نظريات التلقي بحد ذاته يدلّ على بعدين؛ بعد خاص، وبعد عام؛ في الأول يشير المصطلح إلى المنطلقات والحدود المنهجية لجماليات التلقي ونقد استجابة القاريء. أمّا الثاني فيشير إلى نظريات خاصة بتذوق المتلقي للأعمال الأدبية.
إنّ المرتكز الأساسي لمصادر هذه الأطروحة هو النص القرآني المعجز، ثمّ التفاسير التي شكّلت أصولاً مرجعية بالنسبة للبحث في منطلقاته، وتحليلاته، ورؤاه، ثمّ بعد ذلك مصادر نظريات التلقي والسرديات التي أثرت رؤى الباحث، وأعانته في تأسيساتها النظرية لبداية الفصول، ومقدمّات المباحث، وهيّأت له آليات مكّنته أن يسبر النصوص، ويستنبط العلاقات، ويستخرج الدلالات. كما أفادت الأطروحة من المصادر البلاغية والنقدية والأسلوبية، التي شكّلت أسساً تطبيقية اعتمد عليها البحث، فانطلق منها وعاد إليها.
ولابدّ من الإشارة إلى أنّ البحث واجه جملة صعوبات؛ منها قلّة المصادر المتعلّقة بنظريات التلقي والسرديات، وصعوبة الحصول عليها، ما أجبر الباحث على مضاعفة الجهد من أجل توفيرها، الأمر الذي أخذ من وقته كثيراً. ومنها توخّي الدقة والحذر والحرص على سلامة التحليل، كون الدراسة تتعامل مع النص الإلهي، فلا بدّ لها من الاحتكام إلى مرجعيات توثّق خطواتها التحليلية، ومقارباتها النقدية. ومن الصعوبات أيضاً قيام الدراسة بتناول الموضوع من خلال حقلين نقديين، الأول هو السرد والثاني هو التلقي ، إذ لكلّ منهما خصوصيته، ومنهجيته، ممّا حتّم على الباحث الإحاطة بهما، والعمل في ضوئهما معاً. وإذا كانت قلّة المصادر المتعلّقة بالتلقي والسرديات شكّلت صعوبة واجهت الباحث، فإنّ وفرة ما كتب عن النص القرآني منذ عصر التدوين شكّلت تحدّياً أكبر، كان على الباحث متابعتها، وجمع الآراء والتوجّهات الكثيرة، وفحصها وغربلتها، واختيار المناسب منها لمنهج الدراسة.
اشتملت الدراسة على تمهيد وأربعة فصول وخاتمة. بدأ التمهيد بالحديث عن مفهوم الجمال والجمالية، وجماليات التلقي، ثمّ عرج إلى موضوع التلقي في النقد العربي القديم، وإرهاصاته الأولى، فالحديث عن التلقي في النقد الغربي، وختم القول بالحديث عن مفهوم السرد في اللغة والمصطلح، ملقياً الضوء على أهمّ التطورات التي شهدها المفهوم عندما أصبح علماً له منهجه واتجاهاته.
أمّا الفصل الأول؛ فقد خُصِّص لقراءة الشخصيات، وقد تمّ تناولها من خلال مبحثين رئيسين؛ الأول هو الشخصيات الإيجابية، والثاني هو الشخصيات السلبية. وقد اتّكأ المبحث الأول على محورين؛ الأول هو تأصيل الإيجابية والثاني هو الصيغة السردية التي اعتمد عليها السرد القرآني في تقديم الشخصيات. أمّا المبحث الثاني فقد اتّكأ هو بدوره أيضاً على محورين، المحور الأول تأصيل السلبية، والثاني الصيغة السردية لتقديم الشخصيات السلبية.
وجاء الفصل الثاني (قراءة المكان) من خلال ثلاثة مباحث؛ المبحث الأول هو المكان والشخصيات، وتمّ تناوله من خلال ثلاثة محاور هي: الترابط التكاملي بين المكان والشخصيات، والمكان والنمط الثقافي السائد للشخصيات، والمكان في وعي الشخصيات. وتوفّر المبحث الثاني (المكان والمستويات السردية) على محورين؛ الأول هو المكان والتحوّلات السردية، والثاني هو المكان والتبئير، ممهِّداً الحديث عنه، وعن أسسه النظرية. وتطرّق البحث إلى المبحث الثالث (المكان وأبعاده النصية والماوراء النصية) من خلال ثلاثة محاور هي: أنواع المكان، والمكان بين المجاز والحقيقة، ولغة العلاقات المكانية.
وخُصِّص الفصل الثالث للحديث عن أوجه التفاعل بين بنية النص والمتلقي ضمن ثلاثة مباحث؛ الأول جاء بعنوان (المسافة الجمالية)، إذ تناول الباحث فيه مفهوم المسافة الجمالية ووظائفها وعلاقاتها مع السياق الأكبر للنص، مع إبراز دورها في خلق عناصر المفاجأة وكسر أفق التوقّعات، والتفاعل مع المتلقي. وتفرّغ المبحث الثاني لتناول بنية التضاد، كونها بنية فاعلة داخل النسيج السردي القرآني، وتمّ تقسيمه إلى محورين؛ الأول هو التضاد، والثاني هو المفارقة. في حين قُسِّم المبحث الثالث (المسكوت عنه) إلى أربعة محاور تتعلّق كلّها ببنية المسكوت عنه والتواصل مع المتلقي، وعلاقتها مع بنية التضاد، والدور الأسلوبي الجمالي الموكَل بها.
ويحوم الفصل الرابع: (البنية السردية للخطاب وعملية التلقي) حول تحديد البنية الزمنية للخطاب السردي القرآني، وبنية التواصل بين محوري السرد؛ وهما السارد والمسرود له. فجاء في مبحثين؛ الأول هو البناء الزمني للخطاب السردي، والثاني هو العلاقة التواصلية بين السارد والمسرود له. وتنتهي الأطروحة بخاتمة تلخِّص أهمّ النتائج التي توصّل إليها الباحث، في خطوط عريضة.
جماليات التلقي في السرد القرآني
د.ج 1.680,00
1 in stock
book-author | |
---|---|
الناشر | الزمان |
بلد المنشأ | سوريا |
مقاس الكتاب | 17-24 |
الغلاف | Paperback |
ISBN | |
لغة الكتاب | عربي |
عدد الصفحات | 401 |
تاريخ النشر | 2012 |
Customer Reviews
There are no reviews yet.
Be the first to review “جماليات التلقي في السرد القرآني”