يزخر الحقل الثقافي الجزائري بنمط من المثقفين سواء كانوا كتابا أو أساتذة أو أكاديميين أو شعراء أو فنانين أو صحافيين ..، لا تكاد تجد لهم تصنيفا في التراث النظري و الفلسفي الذي طرح سؤال المثقف و حدد وظائفه و أدواره ، و فكر خصائصه و مميزاته و أكد على أهميته في نهضة الشعوب و المجتمعات ، فهذا الصنف من المثقفين لم ينتبه له ” انطونيو غرامشي ” و هو من أكبر الفلاسفة الماركسيين في العصر الحديث الذي اشتغل على مفهوم المثقف خاصة في كتابه ” مذكرات السجن ” ، و انطلق في ذلك من مسلمة مفادها ” أن جميع الناس مفكرون ، و لكن وظيفة المثقف أو المفكر في المجتمع لا يقوم بها كل الناس ” و ميز غرامشي كما هو معروف بين صنفين من المثقفين و هما : المثقفون التقليديون من مثل المعلمين و الكهنة و الإداريين ، و هم الذين يستمرون في أداء نفس العمل جيلا بعد جيل ، و المثقفون العضويون و هم الذين يرتبطون مباشرة بالطبقات الاجتماعية التي تعمل على تنظيم مصالحها و اكتساب المزيد من السلطة و الثروة ، أي أن المثقف العضوي هو من يشارك في الحياة الاجتماعية وهو المرتبط بالجماهير العامل في سبيل تغيير الأفكار و الآراء و الواقع .
و لا نعثر على هذا النمط في تصور “جوليان بندا” للمثقفين خاصة في كتابه ” خيانة المثقفين ” و الذين هم ” عصبة ضئيلة من الملوك الفلاسفة من ذوي المواهب الفائقة و الأخلاق الرفيعة الذين يشكلون ضمير البشرية ” من أمثال سقراط و المسيح عليه السلام ، كما لا نعثر على هذا النمط من المثقفين في تصنيف المفكرين و الفلاسفة من أمثال “جان بول سارتر ” الذي ارتبط اسمه بالمثقف الملتزم بقضايا الإنسانية و دفاعه عن قيم الحرية و العدالة و ” فرانز فانون ” الذي كان نموذجا للمثقف الثوري و اعتقد بأن العنف هو السبيل الوحيد لقلب هذا العالم المانوي رأسا على عقب ، أو حتى ” ميشيل فوكو” الذي انتصر للمثقف المتخصص ، أي المثقف القطاعي ، كما لا نجد لهذا النمط من المثقفين أثرا في تصنيف المفكرين العرب المعاصرين للمثقفين من مثل محمد عابد الجابري في كتابه ” المثقفون في الحضارة العربية الإسلامية ” و الذي استدعى فيه محنة ابن حنبل و نكبة ابن رشد ، و فيه حدد مفهوم المثقف بأنه كل من يحمل أراء خاصة به حول الانسان و المجتمع ، و يقف موقف الاحتجاج و التنديد إزاء ما يتعرض له الأفراد و الجماعات من ظلم و تعسف من طرف السلطات ، أيا كانت سياسية أو دينية ، فالمثقفون حسبه هم أولئك الذين يعرفون و يتكلمون ، و يتكلمون ليقولوا ما يعرفون ، و بالخصوص ليقوموا بالقيادة و التوجيه في عصر صار فيه الحكم فنا في القول ، قبل أن يكون شيئا آخر .
و لا ادوارد سعيد في كتابيه ” المثقف و السلطة ” و كتاب ” خيانة المثقفين ” و الذي حدد فيهما المثقف بأنه ” فرد يتمتع بموهبة خاصة تمكنه من حمل رسالة ما ، أو تمثيل وجهة نظر ما ، أو موقف ما ، أو فلسفة ما، أو رأي ما ، و تجسيد ذلك و الإفصاح عنه إلى مجتمع ما و تمثيل ذلك باسم هذا المجتمع ، و هذا الدور له حد قاطع ، أي فعال و مؤثر ، و لا يمكن للمثقف أداؤه إلا إذا أحس بأنه شخص عليه أن يقوم علنا بطرح أسئلة محرجة و أن يكون فردا يصعب على الحكومات أو الشركات أن تستقطبه ، و أن يكون مبرر وجوده نفسه هو تمثيل الأشخاص و القضايا التي عادة ما يكون مصيرها النسيان أو التجاهل أو الإخفاء ..، فالمثقف من هذا المنظور هو صاحب رأي و فكرة يعتقد في صوابها ، و هذه الفكرة هي موضوع لرسالته التي يناضل من أجلها ، أي لا يمكن تصور مثقف إذا لم يكن صاحب رسالة ، و هي الرسالة التي تتضمن الالتزام و المخاطرة و كذلك في الوقت نفسه الجسارة و التعرض للضرر ، فهو عند سعيد ليس داعية مسالمة و لا داعية اتفاق في الآراء ، لكنه شخص يخاطر بكيانه كله باتخاذ موقفه الحساس ، و هو موقف الإصرار على رفض الصيغ السهلة و الأقوال الجاهزة المبتذلة ، أو التأكيدات المهذبة القائمة على المصالحات اللبقة و الاتفاق مع كل ما يقوله و ما يفعله أصحاب السلطة و ذوو الأفكار التقليدية ، و هذا ما يجعل المثقف صاحب يقظة و انتباه على الدوام و رافض للانسياق وراء أنصاف الحقائق و الأفكار الشائعة ،فالمثقف يشبه الملاح الذي تحطمت سفينته فتعلم أن يعيش ، بمعنى هذه المعاني ، مع الأرض ، لا فوقها ، أي أنه لا يشبه “روبنسون كروز” الذي كان هدفه هو استعمار جزيرته الصغيرة ، بل هو أشبه بالرحالة ” ماركو بولو” ، الذي لم يفارقه قط إحساسه بالدهشة و العجب ، فهو دائما راحل من مكان إلى أخر ، قد ينزل ضيفا على أحد إن استضافه ، و لكنه ليس طفيليا و لا فاتحا و لا غازيا ، فالمدار الأساسي لحياة المثقف يتمثل في المعرفة و الحرية .
قلق المعنى
د.ج 1.400,00
في بداية شهر أكتوبر من سنة 2019 تلقيت دعوة من مدير جريدة ” أخبار الوطن ” لكتابة مقال أسبوعي يصدر كل يوم أحد في ركن ” أقلام “، فشرعت في كتابة المقال على مدار عدة سنوات، وقد اجتهدت في هذه التجربة قدر الإمكان بالتزام الموضوعية والتحرر من ثقل الأيديولوجية. والمقالات الصحفية في أغلبها ذات طبيعة فكرية نقدية، وحرصت في هذه المقالات على الاهتمام بقضايا الراهن وتحليل الخطابات المختلفة الثقافية والعلمية والسياسية والدينية، من خلال التوقف بالتحليل عند الأحداث البارزة التي عرفت بكثافة حضورها خاصة مع بداية العقد الثالث من الألفية الجديدة من مثل: الحراك، الربيع العربي، الجائحة، البيئة، الحرب ..كما تنصرف أغلب هذه المقالات أيضا إلى الاشتغال بالمفاهيم المتداولة بكثرة في خطاباتنا من مثل : العلمانية والسلفية والتاريخ والتأويل والهوية والتسامح وحقوق الإنسان وعلوم الإنسان والمجتمع والحرية والإسلام والغرب والعنصرية والمواطنة والمثقف والمجتمع المدني والأزمة والتعددية الثقافية والعقلانية والاستبداد والفساد واللغة والعنف والحضارة والتفاهة والدولة والسلطة والمذهبية الدوغمائية والحوار والشعبوية والمثقف والكذب في السياسة …وغيرها من المفاهيم ، كما تمحورت بعض المقالات حول شخصيات فكرية من مثل” فرانز فانون” و”مالك بن نبي” و”ادغار موران” و”علي الكنز” و”أمين معلوف” و “يورغن هابرماس” .
والخيط الناظم لهذه المقالات هو استيضاح المعاني وضبط المفاهيم، إيمانا مني بأننا نعيش في فوضى المفاهيم وقلق المعاني، وأن بداية الإصلاح تبدأ من إصلاح عالم المفهوم بالدرجة الأولى، ولذلك انصب الجهد في هذه المقالات الثقافية على كشف حدود المفاهيم وتحليل حمولاتها المعرفية ومضامينها الأيديولوجية واستخداماتها السياسية، والحفر في نشأتها وتاريخيتها، وهذا التقليد في البحث له جذوره في الفكر الفلسفي كما هو معلوم منذ سقراط إلى زكي نجيب محمود و عبد الله شريط وغيرهم من المفكرين والفلاسفة عبر التاريخ .
Out of stock
book-author | |
---|---|
الناشر | النهى |
بلد المنشأ | الجزائر |
مقاس الكتاب | 17 X 24 |
الغلاف | Paperback |
ISBN | |
لغة الكتاب | عربي |
عدد الصفحات | 418 |
تاريخ النشر | 2025 |